في منتصف السبعينات من القرن الماضي تولى إدارة قطاع السكك الحديدية في إنجلترا مدير جديد بغرض تطوير هذا القطاع الخاسر ذي مستوى الخدمة السيئة وجعله منافسا فعليا في سوق النقل وتحسين مستوى خدماته. قرر هذا المدير التعامل مع وكالات التسويق والإعلانات لعمل حملة إعلانية للتسويق لرحلات القطارات – خاصة بعض الخطوط الجديدة. تقدم العديد من شركات الإعلانات بأفكارها واقتراحاتها للحملات الإعلانية المطلوبة.
إلا أن وكالة إعلانات جديدة في العاصمة لندن (حملت اسم Allen, Brady and Marsh أو (ABM) اختصارا) طلبت من مسؤولي السكك البريطانية زيارتها في مكتبها من أجل مناقشة خطتهم لتحسين مستوى الخدمة وعمل حملة إعلانية فريدة من نوعها، وضربت لهم موعدا محددا.
في الموعد وكما هي عادة الإنجليز، حضر ثلاثة من كبار مسؤولي السكك البريطانية إلى مقر الشركة، فلم يجدوا الموظف المفترض به مقابلتهم في انتظارهم، واعتذرت لهم موظفة الاستقبال بشكل فاتر دون أن تنظر إليهم وطالبتهم بالانتظار حتى يخرج إليهم هذا الموظف، وكانت صالة الاستقبال غير نظيفة أو مرتبة، يصدر فيها ضوضاء مزعجة، تعلو طاولاتها أكواب القهوة الفارغة وطفايات السجائر المليئة والجرائد القديمة هنا وهناك وأكوام الأتربة… حتى أن الوفد اضطر لتنظيف المقاعد قبل أن يجلس عليها…
باختصار كان المكان مزعجا للغاية على المستوى السمعي والبصري، وفوق ذلك، لم تبد موظفة الاستقبال أي ترحيب أو اهتمام بوفد الشركة الذي حضر لمناقشة العرض التسويقي.
بمرور الوقت، بدأ صبر الوفد ينفد، حتى اندفع مديرهم إلى موظفة الاستقبال وصرخ فيها قائلا إن الشركة التي لا تهتم بعملائها لا تستحق العمل معهم…
وبينما الوفد يخرج من باب الشركة، خرج عليهم مديرها المؤسس بيتر مارش Peter Marsh (وهو المفترض به مقابلتهم وهو أيضا صاحب هذه الفكرة) وأوقفهم معرفا بنفسه، واستمع لشكواهم وكيف أنه تأخر عليهم ساعة كاملة، وأن منطقة الانتظار غير نظيفة أو مرتبة، وأن الموظفين غير متعاونين ولا يعرفون شيئا، وأنهم لا يعرفون لماذا عليهم الانتظار والاستماع لما سيقوله لهم…
عندها ابتسم بيتر وقال لهم: “أيها السادة، الآن وقد اختبرتم بأنفسكم مستوى الخدمة الذي يحصل عليه الآلاف من ركاب السكك الحديدية البريطانية كل يوم، دعونا نجلس لنرى كيف يمكننا تغيير هذا الأمر.”
بالطبع، حصلت شركة ABM على العقد ولسنوات طويلة وساعدت السكك الحديدية البريطانية على تحسين مستواها وصورتها لدى العامة، بمساعدة المدير الجديد ذي الرؤية الإدارية الناجحة – سير بيتر باركر (رئيس الوفد الذي حضر لمقر الشركة) وكانت أشهر حملاتهم الإعلانية بعنوان: إنه زمن القطار The Age of the Train والتي استمرت حتى عام 1984.
يرى البعض أن سير بيتر باركر أنقذ السكك الحديدية البريطانية من الإفلاس بسبب قراراته وحملاته الإعلانية الناجحة.
طريقة كسب عقد إعلاني مثل هذه أصبحت مضرب المثل في ضرورة التفكير خارج الصندوق واستخدام أفكار ذكية غير مستخدمة من قبل.
لكن راوي هذه القصة، المؤلف الكندي تيري او’رايلي في كتابه الممتاز عن التسويق هذا ما أعرفه This I know، يرى أن سبب كسب هذا العقد هو القصة التي صاحبت العرض، وكيف جعلت الشركة عميلها (مدراء السكك الحديدية) يدرك المشكلة بنفسه، وأن يشعر بما يشعر به الركاب (عملاؤهم).
لقد كانت السكك الحديدية تعاني من مشكلة عويصة لا يمكن لأفضل الحملات الإعلانية حلها، كان على العميل أن يعالج مشاكله ويقدم مستوى خدمة أفضل، حتى يفلح الإعلان وتنجح الخطة التسويقية…
لماذا أسوق لك هذه القصة؟
لأثبت لك أن التسويق ليس بابا للكذب والنصب والخداع والوعود الكاذبة… وهو أمر لو تدري عظيم في هذا الزمن…
التسويق والإعلان ليس وسيلة لتزييف الواقع وادعاء شيء غير موجود في الحقيقة.
التسويق الصحيح يبدأ بتحديد العيوب والمشاكل وحلها وتقديم خدمة / منتج جيد حقا، ثم التسويق والإعلان على أساس سليم…
بالتوفيق لك صديقي المسوق والمعلن…
إرسال تعليق